تفسير سفر الخروج 3 ++ العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا ++ القمص تادرس يعقوب



تفسير  سفر الخروج 3 ++ العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا ++ القمص تادرس يعقوب

 1. العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا:

بينما كان موسى يرعى غنم حميه يثرون ساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب، إذا به يرى عُلِّيقة تتقد نارًا ولا تحترق فقال: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" . هنا دخل موسى النبي إلى مرحلة جديدة هي مرحلة اللقاء مع الله الذي هو سرّ القوة، والراعي الخفي الذي يعمل لخلاص العالم وبنيان الكنيسة.

والآن إلى أي شيء تشير هذه العُلِّيقة المُتَّقدة؟

 أ. إن كلمة "العُلِّيقة" بالعبرية كما جاءت في العددين(2، 3) تعني "العُلِّيقة المملوءة شوكًا The thorny bush" لذا رأى اليهود في هذه العُلِّيقة رمزًا لإسرائيل وقد أحاطت به الأشواك والأتعاب التي تلحق به. وقد أخذ بعض الآباء الأولين ذات الفكر، فرأى العلامة ترتليان في العُلِّيقة إشارة إلى الكنيسة التي تشتعل فيها نار الاضطهاد ولا تُبيدها، ونادى بذات الرأي القديس هيلاري أسقف بواتييه.

كما يقول القديس هيبوليتس الروماني: يتحدث الله مع قديسيه في الكنيسة كما في العُلِّيقة. وكأن موسى النبي رأى في العُلِّيقة كنيسة السيِّد المسيح المتألمة تحوط بها الأشواك، لكنها ملتهبة بنار الروح الإلهي فلا يصيبها الموت... هذه هي الخدمة التي دُعي إليها!

ب. يرى القديس أغسطينوس أنها تشير إلى مجد الله الذي حلَّ في الشعب اليهودي لكنه لم يبيد قساوة قلبهم المملوءة أشواكًا.

ج. يرى القديس إكليمنضس الإسكندري في العُلِّيقة إعلانًا عن الميلاد البتولي، فقد وُلد السيِّد المسيح من البتول، وبميلاده لم تُحل بتولية العذراء. هذا أيضًا ما عناه القديس غريغوريوس أسقف نيصص إذ قال: نور اللاهوت الذي أشرق منها نحو الحياة البشرية خلال ميلادها (ليسوع المسيح) لم يحرق العُلِّيقة المُتَّقدة، وذلك كما أن زهرة البتولية فيها لم تذبل بإنجابها الطفل. وفد نادى ثيؤدورت أيضًا بذات الرأي.

 د. يرى القديس كيرلس الإسكندري أن العُلِّيقة حملت سرّ "التجسد الإلهي"، فقد اتحد اللاهوت بالناسوت دون أن يُبتلع الناسوت. فإنه ما كان يمكن لموسى النبي أن يبدأ هذا العمل الخلاصي ما لم يتلمس ظلال التجسد الإلهي، فيتعرف على "الكلمة الإلهي" المتجسد كصديق للبشرية، صار واحدًا منا، عاش بيننا يحمل جسدنا وإنسانيتنا حتى يدخل بنا إلى أمجاده الإلهية.

في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: لم يشرق النور خلال كوكب مضيء بل خلال عُلِّيقة أرضية، لكنه كان يفوق في بهائه الأنوار السماوية، وفي نفس الوقت لكي لا يظن أحد أنه ليس صادرًا عن مادة ملموسة، أي لئلاَّ ينكر حقيقة تجسده.

ه. أخيرًا رأي القديس يوحنا الذهبي الفم في العُلِّيقة صورة حيَّة لقيامة السيِّد المسيح، الذي حمل جسدًا حقيقيًا، ومات فعلًا، لكنه لم يُمسك في الموت على الدوام.

وفي هذه المناسبة نذكر ما كتبه القديس جيروم إلى أبيفانيوس كاهن Beatrice بأسبانيا يواسيه لأنه كفيف لا يبصر، قائلًا: يليق بك ألاَّ تحزن لأنك حُرمت من الأعين الجسدية التي يشترك فيها النمل والحشرات الطائرة والزواحف مع الإنسان، بل بالأحرى تفرح أن لك العين المذكورة في سفر نشيد الأناشيد... هذه التي بها تنظر الله، والتي أشار إليها موسى حين قال: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم"

ويلاحظ أن الكتاب يقول: "وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عُلِّيقة" . وهنا كلمة ملاك تعني "مرسل"، وتشير إلى الأقنوم الثاني، الابن الذي أُرسل من قبل الآب ليعلن هذا العمل ويرسل موسى النبي... فلو أن الذي ظهر ملاك وليس الأقنوم الثاني لما قال: "ناداه الله من وسط العُلِّيقة... ثم قال: أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله".

يرى بعض الآباء أن الآب لا يُرى، لكن كلمته تُعلن هنا في العُلِّيقة كنار ملتهبة، وهو بعينه الذي يأتي في آخر الأزمنة متجسدًا "لكي يخبر" عن الآب!

2. خلع الحذاء:

يقول الرب لموسى: "لا تقترب إلى هنا. اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليها أرض مقدسة".

 في حديثنا عن قدسية الهيكل قلنا أننا إلى يومنا هذا ندخل الهيكل حفاة الأقدام كوصية الرب لموسى النبي. وخلع الحذاء يشير إلى الشعور بعدم تأهلنا حتى للوقوف في هذا الموضع المقدس الذي فيه تقدم الذبيحة المخوفة التي تشتهي الملائكة أن تطلع إليها. خلع الحذاء أيضًا - عند الآباء - يحمل معانٍ أخرى كثيرة وعميقة، نذكر منها:

أ. كانت الأحذية في القديم تصنع من جلد الحيوان الميت، وكأن الله بوصيته هذه يطلب منا أن نخلع عنا محبة الأمور الزمنية الميتة لنلتصق بالسمويات الخالدة حتى نلتقي به. هذا ما نادى به العلامة أوريجانوس، وأخذ عنه كثير من الآباء.

فيقول القديس أغسطينوس: أي أرض مقدسة مثل كنيسة الله؟! إذن لنقف فيها ونحن خالعين أحذيتنا، أي رافضين الأعمال الميتة.

ويقول القديس أمبروسيوس:كان موسى رمزًا للشعب لم يحتذي بحذاء الرب (مت 3: 11)، بل بنعل رجليه! لذا أمره الرب بخلعه حتى يحرر خطوات قلبه وروحه من قيود ورباطات الجسد، ويسير في طريق الروح.

ويقول القدِّيس غريغوريوس النزينزي: ليت من يقترب إلى الأرض المقدسة التي هي قدس الله يخلع نعليه كما فعل موسى حتى لا يدخل بشيء ميت إلى هناك، ولا يكون بينه وبين الله شيء... أما من يهرب من مصر(محبة العالم) والأشياء التي بها فليحتذي لأجل سلامته، حتى لا تلدغه العقارب والحيات الكثيرة الموجودة بها، فلا تؤذه تلك التي تطلب عقبه (تك 3: 15) وإنما كما أُوصى يطأها بقدميه (لو 10: 19).

ب. الجلد الذي تصنع منه الأحذية -كما يقول العلامة أوريجانوس- يستخدم في الطبول. هنا إشارة إلى عدم استخدام الطبول أو حب الظهور في العبادة، إنما خلال الجهاد الروحي المملوء اتضاعًا يمكن للنفس أن تدخل إلى المقدسات الإلهية وتلتقي بإلهها.

ج. يرى العلامة أوريجانوس أيضًا أن خالع النعلين مرتبط بما ورد في العهد القديم، أنه إن رفض إنسان أن يتزوج أرملة أخيه كوصية الله ليقيم لأخيه الميت نسلًا، تأتي الأرملة إليه في حضرة الشيوخ وتخلع حذاءه من رجليه، ويسمى "بيت مخلوع النعلين" (تث 25: 5-10)، هكذا إذ خلع موسى نعليه أعلن أنه ليس بعريس الكنيسة. وفي كل مرة يخلع الأسقف أو الكاهن أو الشماس حذاءه عند دخوله الهيكل إنما يدرك حقيقة نفسه أنه ليس عريس الكنيسة الحقيقي بل صديق العريس وخادمه.

 أخذ القديس أمبروسيوس ذات الرأي عن العلامة الإسكندري أوريجين فقال: لم يكن موسى العريس لذلك قيل له: "اخلع حذاءك من رجليك" حتى يترك المكان لربه. ولا يشوع بن نون كان العريس لذا قيل له؟ "اخلع نعلك من رجلك" (يش 5: 16)، لئلاَّ بسبب تشابهه مع الاسم (يسوع) يظن في نفسه أنه يسوع المسيح عريس الكنيسة. ليس أحد هو العريس إلاَّ السيِّد المسيح الذي وحده قال عنه يوحنا: "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 29). لذا خلع هؤلاء أحذيتهم من أرجلهم، أما حذاء السيِّد المسيح فلا يمكن أن يُحل إذ قال القدِّيس يوحنا: "لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه" (يو 1: 27).

د. ربط القديس غريغوريوس أسقف نيصص بين خلع الحذاء الجلدي وثوبيّ الجلد اللذين لبسهما آدم وحواء (تك 3: 21) بعد سقوطهما في العصيان، إذ يقول: يعلمنا هذا النور(الذي للعُلِّيقة) أنه يليق بنا أن نقف أمام النور الحقيقي. لكن الأقدام التي بها أحذية لا تقدر أن ترتفع إلى العلو الذي من خلاله ترى الحق. لهذا يلزمنا أن نخلع عن قدمي النفس الغطاء الجلدي الأرضي الميت، الذي وُضع حول طبيعتنا في البداية حين تعرينا بسبب عصياننا للإرادة الإلهية. بهذا تكون لنا معرفة الحق التي تعلن عن ذاتها لنا، فنتحقق كمال المعرفة للأمور الموجودة (الحق)، بتطهير أفكارنا عن الأمور غير الموجودة (غير الحق أو الشر).

 وقد احتل تعليم القديس غريغوريوس عن "ثوبي الجلد" مركزًا هامًا في كتاباته، فيقول مثلًا: الختان يعني خلع الجلد الميت الذي لبسناه حين طُردنا من الحياة الفائقة الطبيعة بعد عصياننا . لذا فالعمودية في نظره هي خلع هذا الثوب الجلدي المحيط بطبيعتنا، أي خلع أعمال الإنسان القديم، هذا الذي يعلن عن موتنا وشهواتنا التي دخلت إلينا بعدما كنا على صورة الله.

 3. دعوة موسى:

من خلال العُلِّيقة الملتهبة نارًا دُعيَ موسى وهو واقف حافي القدمين ليتسلم خدمة شعب الله، وهنا نلاحظ:

أ. تطلع موسى النبي إلى العُلِّيقة وإذا كلها أشواك، لكن النار الإلهية ملتهبة خلالها دون أن تحترق... لعله رأى في ذلك عمل الله الناري الذي يستخدمنا بكل ما فينا من أشواك، يلهب قلوبنا ويعمل بنا بالرغم من كل ضعفاتنا. وكما يقول القديس أمبروسيوس: لماذا نيأس، إن الله يتحدث في البشر، هذا الذي تكلم في العُلِّيقة المملوءة أشواكًا؟! إنه لم يحتقر العُلِّيقة! إنه يضيئ في أشواكي!.

حقًا إن المتحدث نار آكلة (إش 10: 7)، والدعوة صدرت عن النار الإلهية، لكنها لا تؤذي موسى بل تسنده وتلهبه.... كما فعل الروح القدوس الناري في التلاميذ، الذي أحرق ضعفاتهم وأعطاهم قوة للحياة الجديدة الكارزة (مت 3: 11، أع 2).

 ب. إذ دعى الله موسى النبي لم يحدثه عن مؤهلاته للخدمة وإمكانياته البشرية بل حدثه عن نفسه، الإمكانيات الإلهية المقدمة له، قائلًا له: "أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب" .  وكانت هذه الكلمات تخرج بسلطان وقوة نارية حتى "غطَّى موسى وجهه لأنه خاف".  تحدث أيضًا عن قيامه هو بالخلاص، فقد رأى وسمع وعلِم مذلة شعبه، لذا فهو ينزل لإنقاذهم...

أما سرّ قوة موسى النبي فهو "إني أكون معك" . وهو ذات الوعد الذي يعطيه لجميع أنبيائه ورسله وكل العاملين في كرمه. فيقول ليشوع بن نون: "كما كنت مع موسى أكون معك. لا أهملك ولا أتركك" (يش 1: 5)، ويؤكد لإرميا النبي "لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك" (إر 1: 16)، ويقول لتلاميذه: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20).

 4. اعتذار موسى:

أراد موسى أن يعتذر عن الخدمة قائلًا: "من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أُخرج بنى إسرائيل من مصر؟!".

طبيعة موسى الضعيفة بالرغم من كونه من رجال الإيمان جعلته يتردد في قبول الدعوة، وربما كان ذلك من آثار فشله الأول حين خرج إلى الخدمة متكلًا على ذراعه البشري. فما كان له أن يقول: "من أنا؟!" بعد أن عرف أن الله نفسه هو الذي يرسله وهو الذي ينزل ليخلص.

أصر موسى على إعفائه أكثر من مرة، تارة يضع أسئلة واعتراضات، كأن يقول: "فإذا قالوا ما اسمه، فماذا أقول لهم"  والرب يُجيبه، وأخرى يقول: "ولكن ها هم لا يُصدقونني" (4: 1). فيعطيه الرب إمكانية عمل آيات ومعجزات... الخ، وثالثة يعترض بسبب ضعفه الشخصي قائلًا: "أنا ثقيل الفم واللسان" (4: 10). والله يؤكد له أنه هو خالق الفم واللسان "اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به" (4: 12). إذ لا يجد أي حجة يقول: "استمع أيها السيِّد، إرسل بيد من ترسل" (4: 13)، حتى حميَ غضب الله (4: 14) فأعطاه هرون شريكًا معه في الخدمة.

هكذا إذ يدعونا الله للخدمة لا يتركنا نستعفى بل يقدم لنا إجابات عملية لكل تساؤلاتنا، ويسند كل ضعف فينا، ويكمل كل نقص في إمكانياتنا، فهو الراعي الخفي لقطيعه المقدس.

5. اسم الله:

عرف موسى أن الذي يحدثه هو الله، فسأله عن اسمه "فقال الله لموسى أهيه الذي أهيه، وقال هكذا قل لبني إسرائيل أهيه أرسلني إليكم... إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق إله يعقوب أرسلني إليكم" .

حملت إجابة الله لموسى شقين:

أولًا: "أن الله غير مُدرَك وفوق كل تسمية" أهيه أي أنا هو".

ثانيًا: أنه الله المنتسب للبشرية، مُنتسب لخاصته الأحباء "إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب".
أولًا: أهيه الذي أهيه AHIAH:

يرى فيلون اليهودي الإسكندري أن هذا الاسم "أهيه" يكشف عن جانبين في الله: أولًا أنه هو الكائن وحده الذي بجواره يكون الكل كأنه غير موجود. ثانيًا أنه ليس اسم يقدر أن يعبَّر عنه. في هذا يقول: إخبرهم أولًا إني أنا هو الكائن حتى يعرفوا الفارق بين من هو كائن وما هو ليس بموجود. كما قدم لهم الدرس الآخر أنه لا يمكن لاسم ما أن يُستخدم ليليق بي أنا الذي إليه وحده ينسب الوجود.

 ويرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة تعني أنه إذا قورنت كل الأمور الزمنية بالله تصير "باطلًا" أو "لا شيء"، وأنها تعلن عن الله بكونه الوجود الأول والسامي غير المتغير.

هذه العبارة تُظهر الله أنه حاضر على الدوام، ليس فيه ماضٍ انتهى ولا مستقبل منتظر، لكنه فوق الزمن "حاضر دائم"... في هذا الحاضر الدائم، أو الأبدية الحاضرة "نجد لنا ملجأ، فنهرب إليه من كل تغيرات الزمن ونبقى فيه إلى الأبد".

 إن كان الله هو الوجود الدائم، [إذن من يأخذ الاتجاه المضاد لله إنما يسير نحو العدم.

في حديث الأب ميثوديوس عن البتولية وعظمة البر المسيحي يقول: لا يقدر أحد أن يرى بعينيه عظمة أو شكل أو جمال البرّ ذاته أو الفهم أو السلام، إنما تظهر هذه جميعها كاملة وواضحة في ذاك الذي قال أن اسمه "أنا هو".

 ثانيًا: إله آبائكم:

قول الله لموسى: "إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" . وتكرارها ثلاث مرات في هذا اللقاء بين الله وأول قائد للشعب (خر6، 15، 16)سحب قلب آباء الكنيسة، فقد رأي القديس إكليمنضس الإسكندري علامة الصداقة الإلهية الإنسانية فمع أن الله هو إله العالم كله، إله السمائيين والأرضيين، لكنه ينسب نفسه للأخصاء أصدقائه. إنه لا يود أن يكون سيِّدًا بل صديقًا فنراه يكلم موسى وجهًا لوجه كما يُكلم الصديق صاحبه (خر 33: 11)، ويطلب منه "قف عندي هناك" (34: 2).

 ويقول القدِّيس أفراهات: أسماء الله متعددة ومكرمة... أما الاسم الذي تمسك به والذي هو عظيم ومكرم فليس ما يخص بره، إنما ما يخص علاقته بالبشر كخليقته "الخاصة به".
ويقول القديس أغسطينوس: برحمته ربط نعمته بالبشر قائلًا: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب"، حتى يُفهم من هذا أن هؤلاء الذين هو إلههم إنما يعيشون معه إلى الأبد. إنه ينطق بهذا حتى يفهم أولاده أنه يلزمهم بقوة الحب أن يعرفوا كيف يطلبون وجهه إلى الأبد، ويدركوا قدر ما يستطيعون هذا الذي هو "أهيه الذي هو أهيه".

والآن إذ نربط الاسمين معًا "أهيه"، "إله أبائكم"  نقول إن الله غير المدرَك ولا متغير، الذي فوق كل حدود الزمن، يقدم ذاته للبشرية ليتعرفوا عليه كإلههم الخاص، المشبع لكل احتياجاتهم. لذا لم يتحدث قط أي نبي عن نفسه كأنه شيء يقتنونه، أما السيِّد المسيح فهو "كلمة الله" الذي جاء يقدم ذاته في أكثر من موضع، قائلًا: "أنا هو"... قدم نفسه الصديق والعريس، والأخ البكر والمخلص، والخبز النازل من السماء والينبوع الحيِّ، والقيامة والباب، والطريق والحق والحياة، وأخيرًا قال "أنا هو الألف والياء" أي مشبع كل حياتنا.

وأخيرًا، نلاحظ أن السيِّد المسيح استخدم الاسم الثاني ليؤكد للصدوقيين القيامة، فإن الله إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، إله أحياء وليس إله أموات: (مت  22: 31-32). فإن كان الله هو الحيّ إنما ينسب لنا، واهبًا إيَّانا الحياة لنبقى معه إلى الأبد.

6. سرّ الأيام الثلاثة:

أمر الله موسى أن يطلب مع الشيوخ من فرعون قائلين: "الرب إله العبرانيين التقانا، فالآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا".

لقد طلب الرب منهم أن يخرجوا سفر ثلاثة أيام في البرية ويذبحوا للرب، وكان فرعون يطلب من موسى وهرون أن تقدم الذبائح في أرض مصر، لكن موسى أجابه "لا يصلح أن نفعل هكذا... نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا كما يقول لنا" (8: 26، 27). وأخيرًا سمح لهم بالخروج، لكنه كان يقول لهم "لا تذهبوا بعيدًا" (8: 28)، أما موسى فأصر على السفر ثلاثة أيام... لماذا؟

الطريق الذي يخرج فيه الشعب ليقدم لله ذبيحة إنما هو السيِّد المسيح نفسه الذي قام في اليوم الثالث، وخلال قيامته تقبل كل عبادة وتقدمة منا للآب.

للعلامة أوريجانوس أحاديث طويلة عن سرّ الأيام الثلاثة، نقتطف منها العبارات التالية: يلزمنا أن نخرج من مصر ونترك العالم إن كنا نريد أن نخدمه! لا نتركه جسمانيًا بل نتركه من جهة أفكارنا؛ ليس بالخروج من الطرق العادية الملموسة وإنما بالتحرك الإيماني. اسمعوا ما يقوله القدِّيس يوحنا في هذا الشأن: "يا أولادي لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون" (1 يو 2: 15-16)...

ماذا يقول موسى؟ "نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية نذبح للرب إلهنا" (5: 3). ما هو هذا الطريق الذي يقطعه في ثلاثة أيام للخروج من مصر والذهاب إلى الموضع الذي ينبغي أن نذبح فيه للرب؟ إنه الرب نفسه القائل: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). ينبغي أن نسير في هذا الطريق ثلاثة أيام، لأنك "إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت" (رو 10: 9). هذه هي الأيام الثلاثة التي تقطعها في الطريق لتصل إلى الموضع الذي يُذبح فيه للرب وتُقدم "ذبيحة التسبيح" (مز 49: 14).

هذا هو المعنى السري، أما المعنى السلوكي (الأخلاقي) وهو أهم، فإننا نترك مصر مسيرة ثلاثة أيام حين نكون أنقياء في الجسد والروح، كقول الرسول: "احفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح" (1 تي 6: 14). إننا نترك مصر مسيرة ثلاثة أيام حين نفصل عقلنا وطبيعتنا وإحساساتنا عن أمور هذه الحياة لنلتصق بوصايا الله. نترك مصر ثلاثة أيام حين تتنقى أفعالنا وكلماتنا وأفكارنا، إذ توجد ثلاث فرص للخطية (خلال العمل والكلام والفكر).

يُريد إبليس (فرعرن) ألاَّ نبتعد كثيرًا، فلا نسير ثلاثة أيام (8: 28)... لأن عمل عدو الخير هو حرماننا من التمتع بقوة قيامة السيِّد المسيح في داخلنا. هذا من جانب، ومن جانب آخر ألاَّ نسير في الرب ثلاثة أيام، أي لا نتنقى في أفعالنا وكلماتنا وأفكارنا، إنما يريد أن يكون له موضع فينا إن لم يكن بالعمل فبالكلام، وإن لم يكن باللسان فبالفكر. وعلى حد تعبير العلامة أوريجانوس: يريد أن يضمن أنهم يخطئوا إن لم يكن بالفعل فليكن بالقول وإلاِّ فعلى الأقل بفكرهم. إنه لا يريدهم أن يبتعدوا عنه ثلاثة أيام كاملة. يريد أن يرى له فينا ولو يوم واحد على الأقل، إذ له في بعض الأشخاص يومان وفي الآخرين له الأيام الثلاثة كلها. لكن طوبى لمن ينفصل عنه الأيام الثلاثة بأكملها، ولا يكون له فيه يوم واحد.

بخروجنا ثلاثة أيام ندخل إلى معرفة "القيامة" فتستنير بصيرتنا الداخلية بنور المعرفة الحقيقية. فإن كان فرعون يمثل إبليس "رئيس ظلمة هذا العالم" (أف 6: 12)، فإنه لا يُريدك أن تخرج من دائرة الظلمة إلى نور المعرفة. إنما يُريدك أن تبقى في ظلمة القبر ولا تنعم بنور القيامة. لذا نجده في حديثه مع موسى يعترف بعدم معرفته أي بظلمته قائلًا: "لا أعرف الرب" (5: 2).

خبرة الأيام الثلاثة أي القيامة مع السيِّد المسيح اختبرها قبلًا إبراهيم أب الآباء، هذا الذي خرج من بيته ثلاثة أيام وعندئذ رأى العلامة فقدّم ابنه ذبيحة حب لله (تك 22: 4)، ما هي هذه العلامة التي خلالها يقدم إبراهيم ابنه الوحيد إسحق إلاَّ علامة قيامة المصلوب، لذا يقول معلمنًا بولس الرسول عنه إنه: "آمن بالله القادر على الإقامة من الأموات" (عب 11: 19). رأي قيامة السيِّد المسيح فقدم ابنه إسحق مؤمنًا أن الله قادر أن يقيمه من الأموات.

 7. يدّ الله القوية:

من حين إلى آخر يؤكد الله لموسى قدرته على الخلاص قائلًا: "فأمدّ يديّ وأضرب مصر بكل عجائبي التي أصنع فيها وبعد ذلك يطلقكم".

وفي خروجهم لا يخرجهم فارغين، بل يعطيهم نعمة في أعين الشعب فيُعيروهم أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا ... أولًا إشارة إلى قوة الخلاص في حياة المؤمن، ليس فقط نفسه تتقدس، لكنه في خروجه نحو كنعان السماوية يحمل معه غنائم كثيرة، طاقاته الداخلية وعواطفه وأحاسيسه ودوافعه، يصير كل ما في داخله مما كان مكرسًا للشر وعلّة موت له مقدسًا ومباركًا. ومن جهة أخرى إن كان الشعب قد سلبت أُجرتهم وأذلوهم في السخرة وبناء بيوت لهم، فإن الله يعطيهم نعمة في أعينهم لكي يقدموا لهم بإرادتهم هذه الأمور: ذهبًا وفضة وثيابًا.

أما غاية هذا العمل الإلهي الخلاصي فهو "أصعدكم... إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا" ، يجد الأطفال البسطاء قوتهم، والناضجون الأقوياء غذاءهم. فاللبن والعسل إنما هما إشارة إلى حياة الشبع واللذة الروحية، لهذا كان المعمَّدون في الكنيسة الأولى يشربون أثناء طقس المعمودية لبنًا ويأكلون عسلًا، إذ بالمعمودية صار لهم حق الدخول إلى كنعان السماوية الموعود بها.