تأمل من سفر تشيد الاناشيد ++ من هذه الطالعة من البرية؟ كأعمدة من دخان معطرة بالمرّ واللبان (نش 8: 5؛ 3: 6) +++ البابا شنودة الثالث



تامل من سفر تشيد الاناشيد ++ من هذه الطالعة من البرية؟  كأعمدة من دخان معطرة بالمرّ واللبان (نش 8: 5؛ 3: 6) +++ البابا شنودة الثالث

 كأعمدة من دخان:

هنا يتأمل الرب كنيسته في برها, وفي عبادتها، وفي آلامها من اجله. فيقول: من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان؟!

لا شك ان عبارة "أعمدة من دخان" لا يمكن ان تعني ذلك الغزل الرخيص الذي يتهمون به سفر النشيد. فلا يمكن أن تقبل امرأة من حبيبها هذا الوصف! ثم هل يتفق هذا التعبير من قوله عن عروس أنها "جميله كالقمر, مشرقة كالشمس" (نش 6: 10).

نعم، المعنيان يتفقان في المفهوم الروحي.

إن عبارة "كأعمدة من دخان" تحمل معنى روحيًا جميلًا يليق بالنفس العابدة، في علاقتها مع الله. فكيف يكون هذا؟
 تصور انك أمام المجمرة (الشورية). واتيت بحفنة من البخور وضعتها فيها. فما الذي يحدث؟ يحترق البخور من لهيب النار، ويصعد كأعمدة من دخان زكية الرائحة، وهكذا الكنيسة.

نعم تصور معي هذا المنظر الجميل: مجمرة مملوءة من النار المقدسة، التي هي الحب الإلهي. والمحبة تشبهها سفر النشيد فيقول: " مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة" (نش 8: 7).

 هذه المجمرة وضعت فيها حبات من البخور، هي شخصيات القديسين.

حبة اسمها القديس انطونيوس الكبير، وحبة اسمها آبامقار الكبير. وحبة اسمها الأنبا بيشوى, وأربعة اسمها القديس أثناسيوس الرسولي. وخامسة اسمها الشهيد مارجرجس..

وحبات أخرى كثيرة من السواح والمتوحدين والشهداء والبطاركة والأساقفة، والأبرار في كل جيل..

هذه الحبات اشتعلت بالحب، وطلعت إلى فوق كأعمدة من دخان، كرائحة بخور، تتسم منها الله رائحة الرضا (تك 8: 21).

وتنسمها الملائكة، فأعجبت برائحتها الزكية، وغنت في فرح "من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان؟!".

 مُعطرة بالمرّ واللبان:

كان المرّ من العطور التي تدخل في تركيب الدهن المقدس الذي كان يُستخدم في المسحة المقدسة في العهد القديم. تلك التي مُسحت بها خيمة الاجتماع وتابوت العهد، وكل أواني الخدمة و كما مسَحَ بها هرون رئيس الكهنة وبنوه (خر 30: 23-30).

كما كان المر واللبان من تقدمات المجوس للمسيح.
اللبان كان يرمز إلى الكهنوت.
والمر كان يرمز الآلام، وإلى رائحة الحياة الطيبة.
وبكل هذا تعطرت الكنيسة، وتعطرت النفس البشرية التي تحب المسيح.
ومن العطور المقدسة الميعة والسليخة. لذلك فإن المرتل قال للكنيسة في المزمور " المرّ والميعة والسليخة من ثيابك " (مز 45: 8).
لذلك لم يكتفِ سفر النشيد بأن يجعل العروس معطرة بالمر واللبان ْ فقط، وإنما أضاف " وبكل أذرة التاجر "، بكل العطور جميعها..

 وكل أذرة التاجر:

وأنت أيها الابن المبارك - بعد عمر طويل- عندما تصعد روحك إلى فوق: هل تكون زكية الرائحة " معطرة باللبانْ وبكل أذرة التاجر"؟ أم تفوح منها رائحة الخطية البشعة , لا سمح الله..

لأن بعض الناس حينما يموتون، تمتلئ حجراتهم برائحة بخور. وآخرون تتعفن أجسادهم بسرعة. ويحاول أقرباؤهم أن يدفنوهم قبل أن تفوح الرائحة!

 والآن نسأل: ما هي أذرة التاجر التي تتعطر بها الروح؟

هي ثمار الروح التي قال عنها الرسول "وأما ثمر الروح: فهو محبة، فرح, سلام, طول أناة، لطف, صلاح, إيمان، وداعة، تعفف" (غل 5: 22، 23).. هي الطهارة والنقاوة والقداسة، وحرارة الروح، والشوق إلى الله. هي زيت العذارى الحكيمات، وشركة الروح القدس، وهي البذل والعطاء، والجهاد.. هي ثمر الإيمان، وثمر التوبة..

 وترى من هو التاجر؟

هو الذي قال عنه الرب " يشبه ملكوت السموات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة. فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له واشتراها" (متى 13: 15، 16).

هو التاجر الذي يقول الرب في اليوم الأخير " يا سيد، خمس وزنات سلمتَني. هوذا خمس وزنات أُخر ربحتها فوقها" (متى 25: 20).

وأيضا التاجر هو كل خادم للرب يقدم للناس الروحيات، ويقول مع القديس بولس الرسول "صرت لكل شيء، لأخلص على كل حالٍ قومًا" (1 كو 9: 22).

هؤلاء التجار الحكماء ملأوا الكنيسة عطرًا ولبانًا ومرًّا، وميعة وسليخة، وقرفة وعودًا وقصب ذريرة" (خر 30: 23-25).. وكل أذرة التاجر.. كل فضيلة وبر من كل نوع..

 أعمدة من دخان:

وهكذا ارتفعت الكنيسة إلى الرب " أعمدة من دخان " وهو:
دخان الذبائح والمحرقات:
كانت الذبائح والمحرقات توضع على المذبح، وتوقد النار فترتفع أعمدة من دخان. وقد طلب إلينا القديس بولس الرسول أن نتشبه بتلك الذبائح عندما قال " أطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1).

فيا ليتنا نعيش على الأرض كذبيحة، كمحرقة على الذبح تلتهمها النار المقدسة.
وتصعد كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر.

وتقديم النفس كذبيحة أمر واضح في صلواتنا: يقول المرتل "فلتستقم صلاتي كالبخور قدامك. وليكن رفع يديّ ذبيحة مسائية" (مز 63: 4، 5). فلتستقم صلاتي كالبخور، أي كأعمدة من دخان، كذبيحة مسائية. وكما قال المرتل أيضا " باسمك ارفع يديّ، فتشبع نفسي كما من لحم ودسم".

أبعد هذا يقول إنسان إن سفر النشيد يعثرني!!

بل تعثرك يا أخي أفكارك الجسدانية، التي لم ترتفع بعد عن هذا المستوى الجسداني.
ولم تصعد إلى فوق، كأعمدة من دخان.

 الطالعة من البرية:

عبارة " الطالعة من البرية coming out of the wilderness قد تطلق على كنيسة العهد القديم، كما تطلق أيضا على كنيسة العهد الجديد، المزينة بالفضائل، التي يعمل فيها الروح القدس بكل مواهبه، بكل أذرة التاجر.

فأنه قيل " بالروح يعطى لواحد كلام حكمة، ولآخر كلام عِلم، ولآخر مواهب شفاء، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز أرواح، ولآخر ترجمة ألسنة.. هذه كلها يعملها الروح الواحد، قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء (1 كو 12: 8-11).. هذه كلها من أذرة التاجر.

وعبارة الطالعة من البرية، ربما تقصد بها الصلوات.

الكنيسة ليلًا ونهارًا تصعد منها صلوات وألحان وتسابيح.. كلها تصعد إلى فوق.
فتستقبلها الملائكة بهذا النشيد "الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر.. صلوات معطرة بالحرارة، والإيمان والخشوع، والفهم, والتأمل، والشكر.. وكل أذرة التاجر..

فهل كنيستنا اليوم لا تزال -كما كانت في القديم- كنيسة صلاة؟

هل كل نفس فيها، ترتفع منها كل يوم صلوات وتسابيح، وتراتيل، ومزامير، وأغاني روحية (كو 3: 16؛ أف 5:19). أم ان الملائكة ينتظرونها بلا جدوى، وكأنها في عطلة وغفوة!! لا مرّ ولا لبان، ولا شيء من أذرة التاجر! هل كل بيت من بيوتنا تصعد منه أعمدة دخان المقدسة، كأعمدة الهيكل، معطرة بالمسحة المقدسة، بالمر واللبان..

ما أجمل أن يقول الملائكة بعضهم لبعض: هلم ننظر مصانع الروحيات في هذا البلد المقدس، تطلع منها أعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، يكملون بعضهم بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبهم للرب " شاكرين كل حين على كل شيء (أف 5: 19، 20).

 هناك أشياء مهما حاولت أن تكتمل لا تستطيع.

روائح عطرة جميلة لا يمكن أن تخفيها. لا يمكن أن تخفي مدينة كائنة على جبل (مت 5: 14). ولا يمكن أن تكتم روائح بستان مملوء بالورد والفل والريحان.. هكذا الكنيسة – العالم الآخر يتأمل جمالها العجيب، في قدسيتها وطهرها، في حرارتها وعبادتها, في محبتها لله والناس، في كل ما فيها من أذرة التاجر..

تصوروا أن الكنيسة أصبحت موضع دهشة الملائكة..

أصبحت موضع دهشة السماء، بل موضع دهشة العالم كله. ينظر إليها فينذهل: ما هذا الجمال؟ ما هذا السمو والعلو؟ ما هذا الصبر في الجهاد؟ ما هذه المثالية؟ لم نرى قبل مثل هذا.. من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة دخان، معطرة بالمرّ واللبان. مثلما دخل المسيح أورشليم، فقالوا من هذا.. ؟! (متى 21: 10) "وارتجت المدينة كلها".

موقف روحي يتميز به عمل ما، فينظر إليه الكل في دهشة:

ويقولون: قد رأينا اليوم إنسانًا عجيبًا، شخصية من نوع فريد! من هذا الإنسان؟ في أمانته، في دقته؟ في رقته، في أدبه، في محبته، في فهمه..؟ تُرى من تكون هذه الشخصية؟ من هذه الطالعة من البرية، معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر.

 عبارة كل أذرة التاجر, تشير إلى كمال الكنيسة:

ليست متحلية بفضيلة واحده فقط، وإنما بالكل أذرة التاجر.. بكل بركات النعمة، بكل ثمر الروح..

كنيسة "جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان" (2 تي 4: 7). جمعت كل الخير، جمعت الإيمان والأعمال "تعبت من أجل الرب ولم تكلّ" (رؤ 2: 3).

 أما نحن فقد دخلنا على ما لم نتعب فيه. آخرون تعبوا ونحن دخلنا على تعبهم.

أننا ننظر إلى الكنيسة الآباء في إعجاب شديد، وهي معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر، مستندة على حبيبها، ونقول من هذه التي طلعت من البرية؟ وكيف وصلت إلى هذه الدرجة؟!