تأمل من سفر نشيد الأناشيد ...كَمْ رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب! (نش 4: 1) +++ البابا شنودة الثالث


 تأمل من سفر نشيد الأناشيد ...كَمْ رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب! (نش 4: 1) +++ البابا شنودة الثالث

 عبارة الطيب تتكرر كثيرًا في سفر النشيد: فهي في أوله، و في أخره، و خلال إصحاحاته الثمانية:

ففي أوله "رائحة أدهانك الطيبة"، "اسمك طيب مسكوب" (1: 3).
وفي أخره "أهرب يا حبيبي وكن كالظبي.. على جبال الأطياب" (8: 14).
وفي داخله "كم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب" (4: 10). وأيضًا "حبيبي نزل إلى جنته إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات" (6: 2) "قطفت مري مع طيبي" (5: 1).

يضاف إلى هذا، ذكر كثير من مركبات الطيب:

وأخصها (المر) وهو عطر سائل، طعمه مرَ، ورائحته زكية جدًا.. مثال ذلك "اذهب إلى جبل المرَ، وإلى تل اللبان" (4: 7) "يداي تقطران مرًا" (5: 5). ومجموعة كبيرة من مركبات الطيب في (نش 4: 14): "ناردين وكركم، قصب الذريرة وقرفة، مع كل عود اللبان. مر وعود، مع كل أنفس الأطياب" (4: 14).

 في العهد القديم:

هذا الطيب يذكرنا بالدهن الذي للمسحة المقدسة في العهد القديم.
هذه المسحة التي كان يتم بها مسح الملوك والكهنة والأنبياء في العهد القديم، فيحل عليهم الروح القدس وبمواهبه.
كما كان يمسح بها بيت الله ومذابحه وكل أوانيه، فتصير مقدسة للرب.. حقا إننا ننظر إلى هذا الدهن المقدس وفاعليته، ونقول لكنيسة العهد القديم "رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب".

  عن هذا الدهن قال الرب لموسى النبي "و أنت تأخذ لك أفخر الأطياب: مرًا قاطرًا.. و قرفة عطرة.. وقصب الذريرة.. وسليخة.. و زيت الزيتون. و تصنعه دهنًا مقدسًا للمسحة. عطر عطارة، صنعة العطار.

دهنًا مقدسًا للمسحة يكون. و تمسح به خيمة الاجتماع، و تابوت الشهادة، و المائدة وكل آنيتها، والمنارة وكل آنيتها، و مذبح البخور، و مذبح المحرقة وكل آنيته، والمرحضة وقاعدتها". "و تقدسها فتكون قدس أقداس. كل ما مسها يكون مقدسًا". "و تمسح هرون وبنيه، و تقدسهم ليكهنوا لي. وتكلم بنى إسرائيل قائلاَ: يكون هذا لي دهنًا مقدسًا للمسحة في أجيالكم" (خر 30: 22 – 31) "مقدس هو، و يكون مقدسًا عندكم" (خر30: 32).

  حقًا، ما أعجب أدهانك أيتها الكنيسة، التي هي قدس أقداس، و كل ما مسها سيكون مقدسًا! إنها "أطيب من كل الأطياب".

 وفعل موسى حسب كل ما أمره الرب، هكذا فعل" (خر 40: 16). "أخذ موسى دهن المسحة، و مسح المسكن وكل ما فيه وقدَسه. و نضح منه على المذبح سبع مرات، ومسح المذبح وجميع آنيته.."، "وصب من دهن المسحة على رأس هارون ومسحه لتقديسه.." (لا 8: 10 – 12).

  إنه دهن، طيب عطر، مقدس، كان الروح القدس يعمل من خلاله، للتقديس..
 ونسمع بعد ذلك أن صموئيل النبي "أخذ قنينة الدهن، و صب على رأس شاول ومسحه" (1 صم10: 1).

فكانت النتيجة"أن الله أعطاه قلبًا آخر " "و حل عليه روح الله فتنبأ"حتى قال الشعب "أشاول أيضًا بين الأنبياء" (1 صم10: 9 – 11). و صار شاول بهذه المسحة ملكًا..
 كذلك مسح صموئيل الفتى داود بهذا الدهن المقدس "فحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا" (1صم16: 13)

 حقًا، إن رائحة أطيابك أفخر من كل الأطياب".
 والدهن المقدس في العهد القديم كاب يمسح به الأنبياء أيضًا، كما مسح إيليا أليشع نبيًا عوضًا عنه (1 مل 19: 16).

 في العهد الجديد:

 أول طيب نذكره هو اسم الله، وبه ننال المعمودية.

 يقول سفر النشيد -حسب الترجمة البيروتية- "اسمك دهن مهراق" (نش 1: 3). ولكن أفضل من هذه الترجمة، الترجمة التي نستخدمها في طقسنا القبطي "طيب مسكوب هو أسمك (القدوس)".

 اسم الله هو طيب عطر، نستخدمه في كل صلواتنا. وبهذا الاسم نتعمد. كما قال الرب لتلاميذه القديسين "و عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19). كما قال القديس بطرس الرسول لليهود في يوم البندكستي "توبوا، وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا.." (أع 2: 38).

 وهكذا في المعمودية، أخذنا طيب التبرير والميلاد الثاني (تى 3: 5) وغفران الخطايا (أع 2: 38).

 إن اسم الرب الذي دُعي علينا، نأخذ البنوة له في المعمودية. وبه نبدأ كل عمل، وكل صلاة. وباسمه نبدأ كل يوم من أيام حياتنا. ونذكر قول المرتل في المزمور (مز 63: 4، 5).

 "باسمك ارفع يديَّ، فتشبع نفسي كما من شحم ودسم".

 حقًا إن "اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمنع" (أم 18: 10). و ما أجمل ما نقوله للرب في التسبحة "اسمك حلو ومبارك: في أفواه قديسيك".

  "الطيب المقدس الذي نأخذه بعد ذلك، هو دهن الميرون المقدس.
 ونلاحظ أنه يشتمل على الأطياب التي وردت في مركبات مسحة العهد القديم في (خر 30) وأيضًا ما ورد في أطياب سفر النشيد (نش 4: 14).

 وبهذا الدهن المقدس ننال التقديس وسكنى الروح القدس فينا.

 نصبح هيكلًا للروح القدس، والروح القدس يسكن فينا (1 كو 3: 16) (1 كو 6: 19). ويعمل فينا روح الله، و ندخل في شركة الروح القدس. ألا يليق بنا، و نحن نرى هذا، أن نقول للكنيسة المقدسة"رائحة أدهانك أفخر من كل الأطياب".

 ذلك لأن الأب الكاهن، فيما يرشم المعمد بهذا الدهن المقدس (زيت الميرون) يقول هذه الصلوات:

 مسحة الروح القدس، آمين.. مسحة عربون ملكوت السموات، آمين.. مسحة مقدسة للمسيح إلهنا، وخاتم لا ينحل، آمين.

 كمال نعمة الروح القدس، ودرع الإيمان والحق آمين.
 وبهذا الدهن المقدس، يقدس كل أطراف المعمد، ومفاصله وفتحات جسمه. ويبدأ الروح يعمل فيه، بقوته، و مواهبه، وإرشاده.
 حقًا: رائحة أدهانك -أيتها الكنيسة- أفخر من كل الأطياب.

 "الطيب الرابع الذي نأخذه من الكنيسة، هو عمل الكهنوت.
 وكان عمل الكهنوت.. في العهد القديم – يبدأ بسكب الطيب المقدس على رأس رئيس الكهنة، كما يقول المزمور".. كالطيب الكائن على الرأس، الذي ينزل على اللحية، لحية هرون النازلة على جيب قميصه" (مز 132 ).

 لاشك أن الكهنوت هو طيب في الكنيسة، ننال به كل نعم الأسرار المقدسة، وننال به الرعاية والعناية.

 ننال به مغفرة الخطايا، حسب قول الرب لتلاميذه "من غفرتم خطاياه، غُفرت له" (يو 20: 23) "ما حللتموه على الأرض يكون محلولًا في السماء" (مت 18: 18). وننال بالكهنوت نعمة العماد (مت 28: 19)، "و الميلاد الثاني، وتجديد الروح القدس" (تى 3: 5). والمسحة التي لنا من القدوس (1 يو 2: 20)، والتناول من جسد الرب ودمه (1 كو 11).

 وبالكهنوت ننال التعليم الصحيح (تى 2: 1)، حيث من فم الكاهن تطلب الشريعة (ملا 2: 7) وهو يفصل كلمة الحق باستقامة (2 تى 2: 15).

 أيتها الكنيسة المقدسة، هذه هي "رائحة أدهانك الطيبة" (نش 1: 3).
 بل من الكهنوت أيضًا، نأخذ البركة في ختام كل اجتماع، بل البركة في كل وقت. كما علّم الرب موسى "هكذا تباركون.. قائلين لهم: يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا" (عد 6: 23 -26).

 وطيب الكهنوت لا يشمل فقط الأسرار والتعليم والبركة، وإنما يشمل أيضًا العمل الروحي كله.

 ومنه خدمة المصالحة، كما قال القديس بولس الرسول".. وأعطانا خدمة المصالحة.. إذن نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله" (2 كو 5: 18، 20). وفي هذه الخدمة كل ما يتعلق بالرابطة الروحية بين الله والناس. كل ما يتعلق "بتكميل القديسين، وعمل الخدمة، وبنيان جسد المسيح" (أف 4: 11، 12).

 حقًا يا كنيستنا المقدسة، "رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب".
  "طيب آخر تقدمه لنا الكنيسة المقدسة، وهو رائحة المسيح الزكية في حياتنا:

 وهكذا تكون الكنيسة مصدرًا للطيب، لرائحة الحياة الطيبة، كما يقول الرسول "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته.. ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان"، "لأننا رائحة المسيح الزكية لله" (2 كو 2: 14، 15). "رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 16).

 رائحة الحياة الطيبة، هي طيب تقدمه الكنيسة إلى العالم.

 وهي -في قداستها وطهرها- "معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6) . يرى الناس أعمالها الحسنة، فيمجدون الآب الذي في السموات (مت 5: 16).
 إن أستير الملكة، كانت مثالًا، حينما بدأت حياتها كملكة، بأن وضعوها في العطور والأطياب مدة ستة أشهر (إس 2: 12).

 ورقم ستة في الكتاب المقدس يرمز إلى كمال العمل. كما خلق الله العالم في ستة أيام، وقام بعمل الفداء في اليوم السادس وفي الساعة السادسة..
 وكانت الملكة أيضًا – كما في حياة أستير: توضع أيضًا في زيت المر ستة أشهر. والمر عطر، له رائحته الطيبة وطعمه المر، يرمز إلى طيب الكنيسة في آلامها.

 وعن طيب الحياة، قيل عن الكنيسة في قدسية حياتها:
 "المر والميعة والسليخة من ثيابك" (مز 45).

 يعطينا هذا مثلًا عن ثوب البر الذي ينبغي أن نلبسه أمام الله، والثياب البيضاء التي نظهر بها هنا، وكان يظهر بها كما في ظهوراتهم في قصة القيامة (يو 20: 12). وكما يخدم الآباء الكهنة في الهيكل بثياب بيض..

 ثياب القديسين "غير المدنسة من الجسد" (يه 23) كانت طيبًا أمام الله، وكانت بركة أمام الناس. ونذكر في هذا المجال أنه قيل عن القديس بولس الرسول "كان يؤتى عن جسده بمناديل ومآزر إلى المرضى، فتزول عنهم الأمراض، وتخرج الأرواح الشريرة" (أع 19: 12).

 إنها معطرة روحيًا أمام الله.
  وقد أشاد الله بالعطر ورائحته في كتابه المقدس:

 فقد أمر الرب موسى النبي من جهة البخور الذي يجب إعداده لتقديمه للرب إنه يكون "بخورًا عطرًا صنعة العطار" (خر 30: 25). كما يرمز الطيب إلى الحياة الطيبة.
 إن الكنيسة بالطيب الذي تظهر به في حياتها الطيبة، تبدو كما قيل في سفر الرؤيا "كعروس مزينة لعريسها" (رؤ 21: 2).

 ولعل هذا يذكرنا بقول أبينا إسحق أبى الآباء في مباركة ابنه يعقوب: "رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب" (تك 27: 27). حقًا إن الرب يحب الرائحة العطرة ويريدها:
 والطيب أيضًا يظهر في التقدمات والذبائح التي تقدمها الكنيسة للرب.

 وقد قيل عن أبينا نوح بعد رسو الفلك: إنه "أصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضًا بسبب الإنسان.." (تك 8: 20، 21).

  آخر طيب في حياتنا هو الطيب الخاص بتكفين الإنسان بعد موته:
 إن المرأة التي سكبت على السيد زجاجة طيب من ناردين غالى الثمن، ولامها بعض التلاميذ قائلين "لماذا هذا الإتلاف؟! لأنه يمكن أن يُباع هذا الطيب بكثير ويعطى للفقراء"، فقال لهم الرب "لماذا تزعجون المرأة. فإنها قد عملت بي عملًا حسنًا.. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي، إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني" (مت 26: 8-12).

 وحدث هذا فعلًا في تكفين السيد المسيح أن أتى نيقوديموس "وهو حامل مزيج مرّ وعود نحو مئة منّا" فأخذ هو ويوسف الرامي جسد السيد، ولفاه بأكفان مع الأطياب كما لليهود عادة أن يكفنوا" (يو 19: 39، 40). كذلك في فجر الأحد جاء إلى القبر النسوة "حاملات الحنوط الذي أعددنه" (لو24: 1).

 أجساد القديسين الطاهرة التي عاشوا بها على الأرض كانت طيبًا صاعدًا إلى السماء استقبلتها الملائكة قائلين "من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6).

 أجساد كانت طيبًا يعطر الكنيسة، ولما تنيح أصحابها، صعدت أرواحهم إلى السماء كطيب عطر، و بقينا نضمخ رفاتهم بالطيب.

 المقصود أن الإنسان كما تكون حياته على الأرض طيبًا، فإن الطيب يفوح من جسده أيضًا عند تكفينه ودفنه.

 وهكذا نفعل مع رفات القديسين، إذ يضمخ الرفات بالأطياب والحنوط حتى تصبح رائحة رفات القديس عطرة باستمرار.