من كتاب مصر في تاريخ خلاصنا +++ القمص تادرس يعقوب ملطي
مصر ملجأ المسيح
تفسد الخطية قلب الإنسان وتحطمه فتجعل منه عبدًا ذليلًا عدوًا للخير، وفي نفس الوقت يشاركها عنفها وقسوتها. وأيضًا عوض الاتكال على الله يتكل الإنسان على ذراع بشر كما فعل إسرائيل ويهوذا حين أرادا التحالف مع فرعون مصر لينقذهما من بابل. الآن إذ يلجأ السيد المسيح إلى القلب يحول مصر الوثنية العبدة لإبليس إلى مصر الحرة المتمتعة بالبنوة لله. هكذا يتحد الإنسان الداخلي مع ابن الله الوحيد الجنس بعمل روحه القدوس فيصير ابنًا بالنعمة.
يقول الإنجيلي متى: "وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم، قائلًا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي وأمه ليلًا وانصرف إلى مصر" (مت13:2،14).
هروب الطفل يسوع المسيح إلى مصر مع القديسة مريم والدته والقديس يوسف لم يكن بالأمر الثانوي في أحداث الخلاص. لقد رآه إشعياء النبي قبل حدوثه بأكثر من سبعة قرون وسجّل لنا هذا الحدث في الاصحاح التاسع عشر.
افتتح إشعياء نبوته عن مصر بصورة مفرحة تخص مصر، قائلًا: "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها" (إش 1:19). وتسبح الكنيسة في عيد دخول السيد المسيح أرض مصر، قائلة: افرحي وتهللي يا مصر مع بنيها وكل تخومها، لأنه قد أتى إليك محب البشر، الكائن قبل كل الدهور.
يرى القديس كيرلس الكبير أن السحابة الخفيفة السريعة (الترجمة السبعينية) هي القديسة مريم التي قدسها روح الرب فصارت خفيفة ومرتفعة، تحمل رب المجد يسوع لتهرب به إلى مصر من وجه هيرودس (مت 13:2،14). بدخوله ارتجفت الأوثان واهتزت العبادة الوثنية، وذاب قلب المصريين حبًا ليقبلوه ساكنًا فيهم.
يرى القديس أغسطينوس أن النفس التي ترتبط بالسيد المسيح خلال الإيمان الحي العامل بالمحبة تحمله فيها روحيًا، وكأنها قد صارت له كالقديسة مريم التي حلمته روحيًا كما حملته بالجسد! تحمله لكي تدخل به إلى كل قلب فيتمتع بالسيد المسيح فيه.
كان يمكن للسيد أن يلتجئ إلى مدينة في اليهودية أو الجليل لكنه أراد تقديس أرض مصر، رائدة العالم الأممي، ليقيم في وسطها. اهتم الوحي بهذه الزيارة الفريدة، بها صارت مصر مركز إشعاع إيماني حي. وكما خزن يوسف في مصر الحنطة كسندٍ للعالم أثناء المجاعة سبع سنوات، هكذا قدم السيد المسيح فيض نعم في مصر لتكون سرّ بركة للعالم كله.
مصر التي امتلأت بالعبادة الوثنية حيث أقامت عجل أبيس والقطط والتماسيح والضفادع... آلهة، استقبلت رب المجد فيها، فأقام من قلوب المصريين مقدسًا له. تحولت مصر من كونها أكبر معقل للوثنية إلى أعظم مركز للفكر المسيحي والعبادة الروحية والحياة الإنجيلية في فترة وجيزة. تلألأ نجم كنيسة مصر بمدرسة الإسكندرية معلمة اللاهوت وتفسير الكتاب المقدس للعالم المسيحي الأول، وقائدة حركة الدفاع عن الإيمان المستقيم على مستوى مسكوني. ومن مصر انطلقت حركة الرهبنة المسيحية بكل صورها تسحب قلب الكنيسة إلى البرية، تمارس الحياة الداخلية الملائكية في نفس الوقت الذي فيه انفتحت أبواب البلاط الإمبراطوري لرجال الدين، وكان الخطر يلاحق الكنيسة حيث يختلط العمل الروحي الكنسي بالسلطة الزمنية والسياسية. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "هلموا إلى برية مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات من الطغمات الملائكية في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليين... لقد تهدم طغيان الشيطان، وأشرق ملكوت المسيح ببهائه! مصر هذه أم الشعراء والحكماء والسحرة... حصنت نفسها بالصليب! السماء بكل خوارس كواكبها ليست في بهاء برية مصر الممتلئة من قلالي النساك".
حملت كنيسة مصر صليب عريسها عبر الأجيال وقدمت أعدادًا بلا حصر من الشهداء والمعترفين، فاستشهدت أحيانًا مدن بأسرها وتسابق الكثيرون على نوال الأكاليل الاستشهاد بفرح وبهجة قلب.
يتحدث أيضًا القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذه الزيارة المباركة لمصر لتقديسها، فيقول: "إذ كانت مصر وبابل هما أكثر بلاد العالم ملتهبتين بنار الشر أعلن الرب منذ البداية أنه يرغب في إصلاح المنطقتين لحسابه، ليأتي بهما إلى ما هو أفضل، وفي نفس الوقت تتمثل بهما كل الأرض، فتتطلب عطاياه، لهذا أرسل للواحدة المجوس والأخرى ذهب إليها بنفسه مع أمه"، كما يقول: "تأمل أمرًا عجيبًا: فلسطين كانت تنتظره، مصر استقبلته وأنقذته من الغدر!"
تحقق فيها الوعد الإلهي منذ يوم البنطقستي حيث سمع المصريون الرسل يتكلمون بلغتهم (أع 10:2)، وجاء القديس مرقس الرسول والإنجيلي يكرز بكلمة الإنجيل.
تأديب مصر
هروب العائلة المقدسة إلى مصر وإقامة مذبح للرب هناك لا يعنى التغطية على شرورها، وإنما على العكس كشف الرب عن ضعفاتها وجراحاتها الروحية حتى ينزع الرب عنها كل ضعف (مملكة الشر) ويقيم فيها ما هو جديد (ملكوت الله). مجيء الرب يعنى هدم أوثانها وإزالة رجاساتها لأجل تقديس شعبها.
أولًا: قيام حروب أهلية: "وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه مدينة مدينة ومملكة مملكة، وتهراق روح مصر داخلها" (إش 2:19،3). هذه ثمرة طبيعية لاعتزالها الله واهب السلام الداخلي والحب والوحدة.
ثانيًا: فقدان الحكمة الحقيقية، فقد عُرف المصريون كشعب ذكي جدًا. يشهد الكتاب المقدس أن موسى قد تهذب بكل حكمة المصريين (أع20:7)، لكن اعتزالهم لله أفقدهم كل شيء فلم تسعفهم حكمتهم ولا علمهم وحضارتهم، فلجأوا إلى الأوثان يطلبون المشورة: "وأفنى مشورتها، فيسألون الأوثان والعازفين وأصحاب التوابع والعرافين" (إش3:19).
ثالثًا: المعاناة من حكام عتاة (إش4:19) يميلون إلى التسلط والسيطرة لا إلى خدمة الشعب وبنيان البلد. فإذ تقسو قلوب الشعب ببعدهم عن الله واهب اللطف والصلاح يسمح لهم بقيادات عنيفة، حتى كما يفعلون يُفعل بهم.
عندما يقسو قلبنا الداخلي نحو الغير لا نتوقع إلا أن يُكال لنا من ذات الكيل الذي به نكيل للغير، لذا يسمح لنا أن نسقط تحت قيادات عنيفة. هذا ما يحدث حتى في حياتنا اليومية في العمل والأسرة وحياتنا الشخصية. فإن من يقسو على والديه مثلًا نجد جسده عنيفًا في حربه الشهوانية ضد النفس. ما نزرعه للغير إنما نحصده في حياتنا الشخصية.
رابعًا: المعاناة من حالة جفاف: "وتنشف المياه من البحر ويجف النهر وييبس، وتنتن الأنهار وتضعف وتجف سواقي مصر ويتلف القصب والأسل... والصيادون يئنون وكل الذين يلقون شصًا في النيل ينوحون... ويخزى الذين يعملون الكتان الممشط والذين يحيكون الأنسجة البيضاء، وتكون عمدها مسحوقة وكل العاملين بالأجرة مكتئبي النفس" (إش5:19-10).
خامسًا: فقدان الحكماء والمشيرين، فلا يعاني الإنسان فقط من حالة حرمان مادي، وإنما من معينين حكماء يسندونه وسط ضيقه. لذا قيل: "إن رؤساء صُوعن أغبياء، حكماء مشيري فرعون مشورتهم بهيمية. كيف تقولون لفرعون أنا ابن حكماء ابن ملوك قدماء، فأين هم حكماؤك فليخبروك ليعرفوا ماذا قضى به رب الجنود على مصر" (إش 11:19،12).
سادسًا: فقدان الوعي والدخول في حالة سكر. "مزج الرب في وسطها روح غيّ فأضلوا مصر في كل عملها كترنح السكران في قيئه" (إش14:19). لما كانت الخطية مُسكرة تُفقد الإنسان وعيه وهدفه في الحياة لذا متى شرب كأسها يسمح الله أن يحل به روح الضلال أيضًا ليترنح كالسكران بلا هدف. لا يكون له عمل جاد لبنائه وبناء الغير، سواء كان عظيمًا أو محتقرًا، نخلة أو أسلة (حلفاء). وهذا هو أخطر ما يصل إليه الإنسان، إذ يفقد بذلك كيانه الإنساني ليعيش أشبه بميت، لا طعم للحياة عنده.
سابعًا: الارتباك بحالة من الخوف. "في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترجف من هزة يد رب الجنود الذي يقضي به عليها" (إش16:19). فرعون الذي يحسب نفسه منقذًا لإسرائيل ويهوذا من يد أشور في عجرفة وكبرياء يرتعب هو ورجاله ويصيرون كالنساء أمام رب الجنود وأمام يهوذا (إش17:19). وكأن الرب يشجع يهوذا ألا يرتعب من كلما ت فرعون ولا يدخل معه في تحالف كما فعل إسرائيل وآرام، فإن فرعون نفسه يرتعب لا أمام أشور بل أمام يهوذا نفسه.
إقامة مذبح للرب
بعد أن كشف الله عن جراحات مصر وما فعلته الخطية بها من فقدان للوحدة الداخلية والحكمة الحقة مع معاناة من قسوة الحاكم وقسوة الطبيعة (الجفاف) وارتباك في اقتصادياتها (الزراعة والصناعة) وعجز في الطاقات البشرية القيادية بل ودخول في حالة من اللاوعي والسكر مع الخوف والارتباك حتى أمام يهوذا المملكة الصغيرة، فإن الله يتدخل ليشفي جراحاتها ويخلصها، مقدمًا لها البركات التالية:
ا. لغة جديدة: "في ذلك اليوم يكون في أرض ممر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود يقال لإحداها مدينة الشمس" (إش18:19). ما هذه المدن الخمس إلا حواس المؤمن؛ فإذ يُقبل الأمم على الإيمان بالسيد المسيح يسلمون الحواس الخمس في يديه لتقديسها لتتكلم بلغة الروح عوض لغة الجسد، فيقال لها كما قيل لبطرس الرسول: "لغتك تظهرك" (مت73:26؛ مر70:14).
يرتفع قلب المؤمن إلى كنعان السماوية ليس فقط أثناء اشتراكه في سرّ الأفخارستيا وفي كل الليتورجيات الكنسية الحيّة، وإنما أيضًا أثناء عبادته الخاصة، بل وفي خلال حياته اليومية حتى في لحظات أكله وشربه ونومه. هذا هو عمل روح الله القدوس في حياتنا، يحملنا إلى السماء لنختبرها في أعماقنا، وتصير لغتنا كنعانية أي سماوية، لغة الحب والفرح الداخلي. نشارك السمائيين ليتورجياتهم وفرحهم الدائم، ولا نكون شعبًا "غامض اللغة" (حز5:3).
ب. القسم باسم رب الجنود؛ "تحلف لرب الجنود" (إش18:19). كان القسم دليل الثقة والإيمان بمن يقسم الإنسان باسمه؛ فعوض القَسَم بالآلهة الوثنية يقبل الأمم، وعلى رأسهم مصر، الإيمان برب الجنود ويتمسك المصريون باسمه، حاسبين ذلك سرّ قوتهم.
ج. دعوة إحدى المدن "مدينة الشمس" (إش8:19)، يقصد بها "هليوبوليس" التي كانت مركزًا لعبادة الشمس، فقد تحولت عن العبادة للشمس المادية إلى العبادة لشمس البر الذي يشرق على الجالسين في الظلمة. جاءت في الترجمة السبعينية "المدينة البارة"، إذ تحمل برّ المسيح فيها.
د. إقامة مذبح للرب: "في ذلك الوقت يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها" (إش19:19). يقصد بهذا مذبح كنيسة العهد الجديد، إذ كان مذبح العهد القديم في أورشليم ولا يجوز تقديم ذبائح للرب خارجها. لقد عبرت العائلة المقدسة إلى صعيد مصر واختفت حوالي ستة شهور في الموضع الذي أقيم عليه الآن دير العذراء الشهير بالمحرق، وهو يعتبر في وسط مصر، فيه أقيمت كنيسة للرب وتُقدم عليه ذبيحة الإفخارستيا، التي هي تمتع بذبيحة الصليب عينها.
أما العمود الذي في تخمها فهو القديس مارمرقس الرسول الذي جاء إلى الإسكندرية (على تخم مصر) يكرز بالإنجيل، ويقيم مذبح كنيسة العهد الجديد، لكي يتمتع المصريون بالخلاص من عدو الخير مضايقهم، ويكون الرب نفسه محاميًا وشفيعًا ومنقذًا لهم (إش20:19).
هـ. المعرفة الروحية: "فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم" (إش21:19). اهتم المصريون بالمعرفة الروحية، وأُقيمت مدرسة الإسكندرية لهذه الغاية، نشر معرفة الرب لا خلال أفكار عقلانية مجردة، وإنما خلال حياة تعبدية نسكية وخبرة شركة مع الله الآب في ابنه يسوع المسيح بروحه القدوس. امتزجت المعرفة بالعبادة، إذ يكمل النبي: "ويقدمون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرًا ويوفون به" (إش21:19). ولعل أروع من كتب عن ارتباط المعرفة بالعبادة كما بالسلوك الإنجيلي في الحياة اليومية هو القديس إكليمنضس السكندري، إذ جاء هذا الفكر خطًا ذهبيًا في كل كتاباته. فمن كلماته عن المعرفة (الغنوسية): هذه هي العلامات التي تميز غنوسيتنا: أولًا التأمل، ثم تنفيذ الوصايا، وأخيرًا تعليم الصالحين. متى وجدت هذه السمات في إنسان ما يحسب غنوسيًا كاملًا. وإذا فقد الإنسان إحدى هذه السمات تعطلت غنوسيته.
و. شفاء داخلي: "ويضرب الرب مصر ضاربًا فشافيًا فيرجعون إلى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم" (إش22:19). يسمح الله بضربها، أي بتأديبها عن الضعف الذي فيها لكي تكتشف ذاتها وتدرك حاجتها إلى المخلص، فترجع إليه لتجده الطبيب القادر وحده أن يشفي جراحات النفس ويرد لها سلامها. جاء مسيحنا طبيبًا ودواء في نفس الوقت:
مبارك هو "الطبيب" الذي نزل وبتر بغير ألم، شفي جراحاتنا بداء غير مرير، فقد أظهر ابنه "دواء" يشفي الخطاة! +++ القديس مار افرآم السرياني
جاء الرب إلى مصر وضرب أوثانها ليجد المصريون فيه وحده سرّ شفائهم.
ز. إذ كان الصراع العالمي في ذلك الحين قائم بين أشور ومصر، وكانت الدول الأخرى من بينها إسرائيل ضحية هذا الصراع، فإن مجيء رب المجد يسوع يعطى للكل سلامًا، ويشعر الكل -في المسيح يسوع- أن الأرض للرب ولمسيحه، وليست مركزًا للنزاع، ويشترك الكل معًا في العبادة. في تصوير رائع لهذا السلام يقول النبي: "في ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى أشور، فيجيء الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى أشور، ويعبد المصريون مع الأشوريون. في ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة في الأرض، بها يبارك رب الجنود قائلًا: مبارك شعبي مصر وعمل يدي أشور وميراثي إسرائيل" (إش24:19).
ماذا يعني "في ذلك اليوم" التي تكررت حوالي خمس مرات في الأعداد 18-25، إلا ملء الزمان الذي فيه جاء السيد المسيح ليحقق لنا هذه البركات، جاء بكونه "الطريق" الذي فيه تجتمع الأمم لتتمتع بروح الوحدة الروحية وفيض البركة. وماذا يعني اجتماع مصر وأشور وإسرائيل معًا في التمتع بالبركة الإلهية والميراث الأبدي؟ إنها صورة رمزية للكنيسة الجامعة التي ضمت الأعداء معًا بروح الحب والوحدة. لقد كانت إسرائيل في ذلك الحين في صراع بين التحالف مع مصر أو أشور القوتين العالميتين المتضادتين في ذلك الحين. لكن مجيء السيد المسيح عالج المشكلة إذ صار الكل أعضاء في كنيسة واحدة تتمتع بالعمل الإلهي، فدُعي المصريون شعب الله، وأشور عمل يديه، وإسرائيل ميراثه.