من تأملات سفر نشيد الأناشيد ... أنا سوداء وجميلة (ج) ++ البابا شنودة الثالث
"أنا سوداء يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان. لا تنظرن إلىّ لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني" (نش 1: 5، 6).
"أنا سوداء" عبارة جميلة، تقولها النفس المتواضعة المعترفة بأخطائها. لا تجد حرجًا من ذكر نقائصها.
كلما تعترف هذه النفس بشيء من سوادها، يمحوه الله بدمه، ولا يعود يحسبه عليها. يغسلها الرب، فيبيضّ أكثر من الثلج..
"أنا سوداء". تقول ذلك أمام الله والناس، وأمام ذاتها.
أمام الله: حينما تقول "إليك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت" (مز 51). وأما الناس: إذ لا تتفاخر ولا تتباهى. وأمام ذاتها: إذ هي نفس منسحقة في الداخل، ليست بارة في عيني نفسها..
فالنفس البارة في عيني نفسها، لا يمكن أن تقول "أنا سوداء"! أمنا حواء لم تستطع أن تقول هذه العبارة، ولا أبونا آدم استطاع.
أنا سوداء بإرادتي وحريتي، وجميلة بمحبة الله التي تطهرني.
أنا سوداء، لأن الشمس قد لوحتني.
الشمس هي شمس البر، أي الله تبارك اسمه. وكلما تقترب النفس من الله الكلي القداسة الكلي البر، تشعر بأخطائها، وترى أنها لا شيء.. حتى إن كان لها برّ، فهو إلى جوار كمال الله يبدو كخرقة الطامث (حز 36: 17). فتصرخ هذه النفس قائلة: "أنا سوداء.. لأن الشمس قد لوحتني". بهاء الله أشعرني بسوادي..
حقًا إنه أمام الله، يتضاءل الكل "السموات ليست طاهرة أمامه وإلى ملائكته ينسب حماقة" (أي 4: 18).. فكم بالأكثر نحن الأذلاء!!
إننا إن تأملنا برّ القديسين والرسل والملائكة، نجد أننا لسنا شيئًا. فكم بالأولى إن تأملنا كمال الله وقداسته..
هذا الكمال الإلهي غير المحدود، قد لوّحني، فأصبحت أرى نفسي في الموازين إلى فوق (مز 62: 9).. ولكني على الرغم من هذا جميلة. لأن الرب سوف يلبسني ثوبًا أبيض، ويهبني إكليل البر، ويمنحني التجلي الذي أعطاه لتلاميذه، ويعيد إلىّ الصورة الإلهية التي خلقت بها وفقدتها..
"أنا سوداء وجميلة" عبارة تصوّر حالة القديسين الذين -إمعانًا في الاتضاع- كانوا يتظاهرون بالجهل والتهاون والخبل!!
مثل القديسة العظيمة التي كشف سرّها القديس الأنبا دانيال، التي كانوا يدعونها (الهبيلة). وكانت تلقي بذاتها في تراخ وكسل خارج الكنيسة، ولا تحضر الصلاة مع الراهبات، ولا تقوم أمامهن بأي عمل من أعمال العبادة. فإذا نمن كلهن، قامت في ظلام الليل، وانتصبت أمام الله في صلوات عميقة طول الليل. حتى إذا ما استيقظت الراهبات تتراجع إلى صورة التراخي، وتتعرض للاحتقار والإهانة.
كانت في نظر الناس سوداء، لأنها أخفت برّها عنهم. ولكنها كانت في حقيقتها جميلة، وأجمل من الكل.
القديس الأنبا رويس، كان -في أيامه- يبدو أمام الناس رجلًا حافيًا، يسير وراء جمله، بلا لقب ولا وظيفة ولا كهنوت. يزفه الأطفال قائلين: المجنون المجنون!!
صورته سوداء، ولكنها جميلة.
ويعوزني الوقت، إن سردت قصص القديسين الذين ساروا في هذا الطريق.. كأولئك الذين قالت لهم القديسة سارة:
"بالحقيقة إنكم إسقيطيون. لأن ما عندكم من الفضائل تخفونه! وما ليس فيكم من النقائص تنسبونه إلى أنفسكم!
صورة تبدو أمام الناس سوداء. وهي في حقيقتها جميلة..
صورة الذين باستمرار يأخذون المتكأ الأخير، محتقرين ومرذولين من الناس. وقد ماتت نفوسهم عن المجد الباطل ومحبة المديح.
العشار وهو واقف من بعيد في مذلة الخطاة، لا يجرؤ أن يرفع نظره إلى فوق، كانت نفسه في نظر الفريسي سوداء، وهي جميلة!
كذلك الخاطئة التي بللت قدمي المسيح بدموعها (لو 7). كانت في نظر سمعان الفريسي سوداء! وفي نظر المسيح كانت جميلة.
إنها النفس المنسحقة التي تدين ذاتها، وهي غارقة في دموعها. التي يقول لها الرب حوّلي عينيك عني، فإنهما غلبتاني.
يمكن أن عبارة (سوداء) تطلق على حياة الحرمان والتجرد، التي يحياها النساك وأشباههم من أجل الرب..
إن لعازر المسكين الذي كان يشتهي الفتات الساقط من مائدة الغني، وكانت الكلاب تلحس قروحه (لو16)، قطعًا كانت نفسيته تبدو سوداء في نظر الغني وأهل بيته. ولكنها كانت نفسًا جميلة حملتها الملائكة إلى حضن إبراهيم (لو 15: 22).
فإن كان من احتمل حرمانًا وقع عليه بغير إرادته، قد حسب أهلًا لهذا المجد، فكم بالأكثر من يتجرد بإرادته..!
أولئك الذين باعوا أملاكهم لُتعطى للفقراء، وعاشوا في جوع وعطش. وقد خسروا كل الأشياء، وهم يحسبونها نفاية لأجل معرفة المسيح (في 3: 8). ووضعوا أمامهم قول الرسول "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم" (1يو 2: 15).. لاشك أن حياة أولئك وهي خالية من كل مباهج الدنيا، كانت تبدو لغيرهم سوداء! ولكنها كانت حياة روحية جميلة..
هكذا الفتاة التي ترفض الملابس الخليعة، وما يناسب تلك الملابس من زينة، تبدو هذه الفتاة في نظر الأخريات فلاحة ومتأخرة! ولكنها جميلة..
إن النفس البارة التي لا تتشبه بأهل العالم "ولا تُشاكِل أهل هذا الدهر" (رو12: 2)..
تستطيع أن تقول لنظائرها "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم". أنا لا أتمتع بشيء من مباهج الدنيا، ولكنني لا أشعر بحرمان! إنما يشعر بالحرمان، الشخص الذي يشتهي الشيء ولا يناله. أما الذي لا يشتهيه، فهو لا يشعر بحرمان. بل هو سعيد بما فيه. حياته في تجرده جميلة في عينيه..
فضيلة التجرد في نظر الناس سوداء، وكذلك إخلاء الذات.
السيد المسيح أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد (في 2: 7). وُولد في مزود بقر، وعاش في بيت رجل نجار فقير، ومن أم يتيمة وفقيرة، ومن قرية صغيرة. وُدعي ناصريًا نسبة إلى الناصرة التي كانوا يتعجبون أن يخرج منها شيئًا صالح (يو 1: 46). وهرب في طفولته إلى مصر. ثم عاش لا يجد أين يسند رأسه (مت 8: 20). وكان "رجل أوجاع، ومختبر الحزن" (أش 53: 4). وأخيرًا حكم عليه بالموت، واستهزأوا به وصلبوه كفاعل إثم بين لصين..
صورة تبدو سوداء. وربما في نظر الناس تمثل المهانة والضعف! ولكنها كانت جميلة، تمثل الحب والبذل والفداء وإخلاء الذات.
المحبة وهي صاعدة على الصليب، تقول للناس: لا تنظروا إلىّ لكون صورتي على الصليب تبدو سوداء في نظركم. لأن الشمس قد لوّحتني. عملية الإخلاء صيرتني سوداء.
وكذلك البذل والفداء جعلني "كشاه تساق إلى الذبح، كنعجة صامتة أمام جازيها" (أش 53: 7). إنها صورة سوداء وجميلة.
صدقوني إن قصة التجسد والفداء، في هذه العبارة العميقة "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم".
هذه الصورة التي حاول البعض أن يتبرأ منها: "ملعون من ُعلق علي خشبة" (غل 3: 13).. صارت أبهى وأجمل صورة في الوجود، يمجدها ويقبّلها الجميع. وتزين الناس والأماكن. ولا ينظرون إليها لكونها سوداء. فإن الشمس قد لوّحتها.. وكيف لوّحتها؟
لقد غيّر السيد المسيح موازين العالم. غير الإيديولوجيات التي يؤمن بها الناس. وجعل هذه السوداء تبدو جميلة.
وهكذا كثير من الفضائل تبدو سوداء وهي جميلة.
ربما تبدو أمامك صورة سوداء، أن تحوّل الخد الأخر، وتمشي الميل الثاني. وتكون دائمًا مراضيًا لخصمك مادمت في الطريق (مت 5: 25). ولكنها صورة جميلة، تدل على نقاوة القلب من الداخل، وخلوه من الحقد ومن الرغبة في الانتقام.
إن التسامح أكبر وأقوى من الإهانة التي تصدر من أشخاص مغلوبين من أعصابهم!
ولذلك فإن الرسول يطلب من الأقوياء أن يحتملوا ضعف الضعفاء (رو 15: 1).
قوة الاحتمال تبدو كأنها ضعف، وكأنها سوداء وهي جميلة!
مثل مياه النيل المحملة بالطمي، هي أيضًا سوداء وجميلة.
كذلك فضيلة الصبر، فضيلة تبدو سوداء وُمرة. ولكن ما أجمل الصبر. يقول الكتاب "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 24: 13).
عبارة (سوداء وجميلة) تنطبق أيضًا على أولئك المظلومين، الذين لا يدافعون عن أنفسهم، ويظهرون كأنهم مذنبون، وهم أبرياء!
صورة أمام الناس سوداء، وهي جميلة. وليست فقط جميلة لأنهم أبرياء، بل بالأكثر لأنهم لم يدافعوا عن أنفسهم، ولم يهتموا أن يظهروا أمام الناس أبرياء.
مثال ذلك يوسف الصديق الذي كان في نظر الناس عبدًا، وقبل الأمر في صمت وعلى الرغم من إخلاصه الشديد لسيده، أتهمته المرأة ظلمًا، وألقى في السجن كفاجر.. بصورة سوداء، ولكنها في أعماقها أجمل الصور روحيًا.
لو دافع يوسف عن نفسه وقت بيعه، لأحرج أخوته الذين كانوا يبيعونه. ولو دافع عن نفسه في تهمة الزنا، لأحرج امرأة فوطيفار. وهكذا فضّل ألا يحرج أحدًا، وليكن هو الضحية وكبش الفداء.
صورة جميلة لنفسِ نبيلة، على الرغم مما فيها من العبودية والظلم.
عكس الصورة التي تبدو سوداء وجميلة، الصورة التي تبدو جميلة وهي في حقيقتها سوداء.
مثل القبور المبيضة من الخارج، وفي الداخل عظام نتنه (مت 23: 27).
أما أولاد الله، فلا يهمهم الخارج ماذا يكون "ليكن أسود في نظر الناس، إنما المهم هو القلب من الداخل كما يراه الله الذي قال "يا ابني أعطني قلبك" (أم 23: 26).
إنهم يهتمون بالداخل الذي يراه الله، وليس بالخارج الذي يراه الناس. وهكذا يخفون صومهم وصلاتهم وصدقتهم، كما أمر الرب. وأبوهم الذي يرى في الخفاء، هو يجازيهم علانية (مت 6).